هل علم الاجتماع المقارن فرعاً من فروع علم الاجتماع أم هو بالفعل علم الاجتماع ؟؟؟
الاجابة :
لقد أهتم أميل دوركايم بالتاريخ وركز على المقارنات عند سعيه للوصول إلى
منهاج مناسب وملائم لدراسة الظواهر الاجتماعية وتحليلها , إذ أدرك بشكل
واضح أن علماء النظرية الاجتماعية من قبله قد أهملوا إلى حدٍ بعيد هذا
الأمر , وإن كان أوجست كونت قد عالج مسألة المنهاج بصورة غامضة تركزت حول
تأكيد نزعته الوضعية , ولم يكن سبنسر متميزاً عن كونت عند مناقشته
لإمكانيات الدراسة الاجتماعية العلمية إذ كانت أيضاً غامضة , خاصةً ما
يتعلق منها بالمنهاج الجديد لعلم الاجتماع .
ولقد بدأ دوركايم عملية البحث عن المنهاج المناسب لدراسة الظاهرة
الاجتماعية , حينما حدد موضوع علم الاجتماع بأنه الظواهر الاجتماعية
باعتبارها أشياء , أي على أساس أنها أشياء تقدم نفسها للملاحظة كنقطة
بداية للعلم , إذ حدد في هذا الجانب قواعد ذكرها زيدان عبدالباقي في كتابه
" التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره 1974 " على النحو التالي :
• ضرورة تحرر الباحث الاجتماعي بصفة مطردة من كل فكرة سابقة يعرفها عن
الظاهرة موضوع الدراسة , وهذه هي قاعدة الشك عند ديكارت Descartes , وفكرة
التحرر من الأصنام عند بيكون Bacon .
• وضرورة تركيز الدراسة في موضوع البحث على مجموعة من الظواهر التي سبق
تعريفها ببعض الخواص الخارجية المشتركة بينها . ومن الواجب أن ينصب نفس
البحث عن كل الظواهر التي تتوافر فيها شروط ذلك التعريف . وهذه القاعدة
خاصة بتصنيف الظواهر الاجتماعية في طوائف متجانسة كظاهرة الجريمة , الأسرة
, العشيرة , العائلة الأبوية ... الخ . ويقتضي ذلك تحديد المصطلحات
العلمية التي تعبر تعبيراً دقيقاً عن طبيعة الظواهر .
• ضرورة قيام الباحث الاجتماعي عند شروعه في دراسة طائفة من الظواهر
الاجتماعية يبذل فيها أقصى الجهود في ملاحظة هذه الظواهر , من الناحية
التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية , وهذا شرط ضروري حتى يمكن
التوصل إلى الصفات الثابتة التي تتيح لنا فرصة الكشف عن حقيقة الظواهر
الاجتماعية , ومن ثم تسمح لنا بالكشف عن القانون الذي تخضع له .
والواقع أن القاعدة المنهجية الأساسية عند دوركايم تعتمد على هذا الاستقلال الذي يميز الظواهر الاجتماعية .
ويقول تيماشيف في كتابه " نظرية علم الاجتماع 1992 " أن دوركايم تؤكد على
أنه من الخطأ البالغ أن نفسر ظاهرة اجتماعية معينة , باعتبارها نتاجاً
مباشراً للعمليات النفسية الفردية فمما لا شك فيه أن مصدر الالتزامات
الاجتماعية العديدة يكمن خارج نطاق الفرد ذاته , فمثلاً : طاعة الأبناء
والحب والتدين والولاء للزوج وغيرها من العواطف التي تنشأ عن الحياة
الاجتماعية , ليست سبباً للظواهر الاجتماعية , ولكنها نتائج مصاحبة للضغوط
التي تمارسها تلك الظواهر على الشعور الفردي .
وهذا يعني أن الحياة الجمعية مستقلة عن الحياة الفرد الخاصة , ولعل هذا ما
جعل دوركايم يعتقد بأنه يتعين أن نبحث عن السبب المحدد للظاهرة الاجتماعية
بين الظواهر الاجتماعية السابقة عليها , وليس بين حالات الشعور الفردي .
ولتحقيق هذا الأمر فقد حدد دوركايم مجموعة من الخطوات التي لخصها في كتابه " قواعد المنهج في علم الاجتماع " بالشكل التالي :
•دراسة مكونات الظاهرة وتحديد عناصرها لتيسير فهمها .
•دراسة أشكال الظاهرة في كل مرحلة من مراحل تطورها , لربط ماضي الظاهرة بحتضرها بطريقةٍٍ وضعية .
•دراسة علاقة الظاهرة بالظواهر الأخرى المتشابهة وغير المشابهة لها .
•الاستفادة من منطق المقارنة بين الظاهرة والظواهر الأخرى .
•التعرف على الوظيفة التي تؤديها الظاهرة الاجتماعية وتطوير تلك الوظيفة في مختلف المراحل .
•تحديد القوانين التي يتم استخلاصها من الدراسة بصورة دقيقة , باعتبارها الهدف الرئيسي للعلم .
وقد تصاغ هذه القوانين في صور كمية تعبر عن الظاهرة بالأرقام , أو في صور
كيفية تحدد الخواص والصفات العامة والدعائم الأساسية التي تقوم عليها
الظاهرة ... وهذا كله يؤدي إلى تدعيم شخصية العلم بين العلوم الأخرى .
ومن هنا فإن دوركايم يؤكد على أن التجربة غير المباشرة أو ( المنهج
المقارن ) هي المنهج الوحيد الذي يلائم طبيعة الدراسة في علم الاجتماع ,
ويذهب إلى أكثر من ذلك حيث يرى ضرورة توسيع نطاق المقارنة بين المجتمعات
المتشابهة والعصور المتعددة , حتى تأتي القوانين في صورة شاملة ودقيقة
ومعبرة عن ظروف الظاهرة أو الظواهر الاجتماعية محل الدراسة . وتتخذ
المقارنة لدى دوركايم ثلاثة صور هي :
1.أن تكون المقارنة لظاهرة ما _ ولتكن الانتحار _ في أثناء عصر يمتد
امتداداً كافياً , وبين التغيرات التي تطرأ على هذه الظاهرة نفسها , تبعاً
لاختلاف الأقاليم والطبقات والمساكن القروية أو الحضرية وتبعاً لاختلاف
الجنس والعمر والحالة الشخصية , وغير ذلك من الأمور .
2.أن تكون المقارنة بين نظم سائدة في مجموعة من المجتمعات المتجانسة من
حيث الدرجة والنوع لا سيما إذا كنا بصدد دراسة أحد التيارات الاجتماعية
والتي تعم المجتمع بأسره والتي تختلف صورها من مكان لآخر .
3.أن تكون المقارنة بين النظم سائدة في مجتمعات متمايزة وغير متشابهة
وليست من شكل اجتماعي واحد . وبذلك يكون هناك مجال أكثر اتساعاً للمقارنة
. ومن هنا يمكنه الإجابة عن هذين التساؤلين :
أ.هل تتطور نفس الظاهرة من الناحية الزمانية على نمط واحد لدى كل من هذه الشعوب على حدة ؟
ب.وهل تخضع الظاهرة لنفس الظروف لدى جميع هذه الشعوب ؟
ومن هذه المقارنة يستطيع الباحث أن يحدد أعمار المدن وأسباب تحضرها مثلما
فعل دوركايم في تحديد أعمار مدن روما وأثينا واسبرطه من خلال تتبع المراحل
التي مرت بها العائلة البطريكية .
ويؤكد دوركايم في كتابه " قواعد المنهج في علم الاجتماع " على أن علم
الاجتماع يجب أن يصبح علم اجتماع مقارنا ً , طالما أنه لا يكتفي بمجرد
الوصف , بل يسعى إلى دراسة الظواهر الاجتماعية . فضلاً عن أن الأسلوب
العلمي الصحيح يتطلب مقارنة المجتمعات خلال مرحلة تطورية واحدة . ( وهنا
نلاحظ أن دوركايم يحاول أن يختبر طريقته الخاصة في البحث في ضوء افتراضات
كونت وسبنسر عن التطور التقدمي , برغم أنه لا يتفق معها في منهج البحث ) .
ولعل ذلك هو الذي دفع دوركايم إلى الاهتمام بتأكيد فوائد الطريقة التي
أطلق عليها مل Mill طريقة التلازم في التغير . وتذهب هذه الطريقة إلى أنه
إذا كان التغير في متغير معين ( مثل معدل الانحدار ) يصاحبه تغير في متغير
آخر ( كالانتماء الديني مثلاً ) , فإن هذا التلازم في التغير قد يرجع إلى
ارتباط سببي مباشر بين المتغيرين , أو إلى ارتباط بينهما من خلال ظاهرة
اجتماعية أساسية ( ولتكن مثلاً درجة التضامن الاجتماعي في الجماعة ) .
ولقدكانت معظم الأعمال الإمبيريقية التي أجراها دوركايم , تهدف إلى إثبات
وجود علاقات سببية وفقاً لهذه الطريقة الدقيقة التي أدخلها على المنهج
المقارن .
وأخيراً :
لابد أن يستخدم الباحث منهج
المقارنة بين ماضي الظواهر الاجتماعية موضوع الدراسة وحاضرها , حتى يقف
الباحث على تطور الظواهر الاجتماعية والنظم الاجتماعية , ذلك لأن تلك
الظواهر متطورة ومتغيرة , تتسم بالثبات النسبي والجبر والالتزام , وأن
استخدام هذا المنهج ( المقارن ) في دراستها يمكن الباحث من تحقيق الوصف
والتفسير وبالتالي الدراسة العلمية للظاهرة الاجتماعية بالشكل الذي يقود
إلى تحقيق علمية علم الاجتماع بعيداً عن تأثير الايديولوجيه لا سيما إذا
ما اتفقنـا على أن :
•المقارنة تظهر التنوع الاجتماعي في النظام الاجتماعي في كل من الماضي
والحاضر , وهذا التنوع في علاقات الأفراد يظهر لنا علم كممارسة علمية .
•المقارنة أداة مفيدة لإظهار الطبيعة النظامية لتلك الاختلافات التي
نلاحظها وأن مؤسسي علم الاجتماع الحديث يعملون من منطلق أن الغرض من
المقارنة بين المجتمعات هو استنباط مجموعة من المركبات الاجتماعية التي
تمثل حقيقة في مجتمعات كثيرة .
•أن الدراسات النظامية للاختلافات في علم الاجتماع المقارن قد حققت جزء
مهم ليس فقط لأن الظواهر الاجتماعية تختلف , بل أيضاً لوجود اختلاف بين
أسباب حدوث تلك الظواهر الاجتماعية .
لذا فإن علم الاجتماع المقارن كما يقول دوركايم يمكننا من وضع الظاهرة
الاجتماعية في التطور النظري ويكشف عن أنماط عامة للتفسير الاجتماعي كما
أن البحث في علم الاجتماع التاريخي أثبت ضعف بعض الفروض عن حتمية التغير
استناداً إلى تنوع كثير من الطرق عن تلك الحتمية , وأنه إذا قمنا بدراسة
المؤسسات الإنسانية التي تقوم بأثر فاعل , فإننا نجد في ضوء الحقيقة أن
التاريخ يكرر نفسه بشكل أساسي تبعاً للوظائف التاريخية .