فلسفة عم عبد الواحد
اعتدت أن أراه مبتسماً راضياً قانعاً .. لا يشغله من أمر الدنيا شىء . يعيش وحيداً لا زوجة ولا ولد ولا أهل ولا أقرباء ولا صديق ولا رفيق . إذا شعر بالوحدة لجأ إلى أقرب مسجد وفى رحاب الله تطمئن نفسه ويهدأ باله ويرتاح قلبه ويصفو فؤاده . وفى أحيان كثيرة يغلبه النعاس وهو يقرأ القرآن فيختار ركناً هادئاً فى المسجد فينام فيه حتى تحين صلاة الفجر .. وبعد الصلاة يواصل قراءة القرآن إلى أن يأتى موعد عمله فيذهب إليه
وعم عبد الواحد- وهذا هو اسمه - الذى اشتهر به عمله وبين سكان الحى الذى يقيم فيه ، موظف صغير فى أرشيف إحدى الوزارات ، ورغم ذلك فإن مكانته كبيرة بين زملائه وأهل حيه لتقواه وورعه وطيبة قلبه وسعة اطلاعه ، وكثيرا ما يستدعيه بعض كبار الموظفين من رؤسائه ليفسر لهم آية قرآنية أو حديثا شريفا
وفلسفة عم عبد الواحد فى الحياة والقناعة والرضا والإيمان الشديد بالله .. لا يشكو ولا يتذمر أبداً .. تجده دائماً راضياً شاكراً حامداً ربه على ما قسمه له .. وإذا واجهته مشكلة وعجز عن حلها فإن الابتسامة تظل مرتسمة على وجهه لا تختفى أبداً . وتجد دائماً راضياً شاكراً لا يعاند القدر .. بل يسير دائماً فى الطريق الذى رسمه الله له
ومنذ أيام التقيت به صدفة فى أحد الشوارع المؤدية إلى الوزارة ، وعندما رآنى بادرنى بقوله: انت فين يا بيه .. دى الوزارة كلها بتسأل عنك . ثم أطرق برأسه وواصل حديثه قائلاً: عارف انك بتحب لى الخير ، وعلشان كده حأقول لك حاجة عن عمك عبد الواحد تفرحك
وهنا انفرجت أسارير وجهه ولمعت عيناه وهو يخبرنى فى سعادة غامرة أنه عثر على وظيفة بعد الظهر مرتبها خمسمائة جنيه فى الشهر ، قلت له مهنئاً: مبروك يا عم عبد الواحد -
قال لى: مبروك على ايه يا بيه .. هو أنا لسه عارف المدير العام بتاعنا حيوافق ولا لأ
قلت: هل تريد أن أكلمه
قال: لا يا بيه .. أنا واسطتى ربنا
وهنا رفع رأسه إلى السماء وهو يقول بصوت مملوء بالثقة: سبحانك .. أنت وحدك المعين
قلت: ولكنك لم تقل لى ما هى هذه الوظيفة الجديدة
قال: كاتب فى محل مانيفاتورة
وقلت: ولكن ماذا الذى جعلك تفكر فى العمل بعد الظهر؟
قال: ماخبيش عليك يا بيه .. أنا كبرت وداخل على الستين ، وصاحب مرض .. ولازم لى واحدة بنت حلال تكون جنبى وأنا بودع الدنيا تسند رأسى وتسبل عينيه
قلت: هذا قرار حكيم يا عم عبد الواحد .. ولكن ماذا ستفعل إذا رفض المدير العام طلبك؟
قال: تبقى دى إرادة ربنا ويبقى ربنا سبحانه وتعالى عايز يحمينى من شر كان حيحصل من ورا الشغلانة دى
وأمسك عم عبد الواحد بذراعى وضغط عليه بشدة وهو يقول: العبد عليه يسعى .. وبعد كده يسلم أمره للخالق
وبعد أيام قابلت عم عبد الواحد . كان لقاؤنا هذه المرة على سلم الوزارة . كانت علامات الرضا تبدو على وجهه كالمعتاد ، وكنت مشتاقاً أن أعرف منه أخبار الوظيفة الجديدة فسألته فى لهفة
ازى حالك يا عم عبد الواحد .. أخبار الوظيفة ايه؟ -
فرد على سؤالى فى استنكار قائلا
وظيفة ايه يا بيه .. ربنا موجود -
قلت: يبدو ان الله فتح عليك من طريق آخر
قال: دا اللى ربنا بعتهولى حاجة كبيرة قوى
قلت: يا ترى ايه .. فرحنى يا عم عبد الواحد
قال: القصة طويلة قوى .. تعالَ فى مكتبى وأنا أحكيهالك
ونزلنا إلى بدروم الوزارة حيث يوجد مكتب عم عبد الواحد .. وطلب لى واحد شاى كشرى ، وجلست أستمع إلى قصته باهتمام شديد . قال: عندما ذهبت لمقابلة المدير العام وطلبت منه الموافقة على الوظيفة الجديدة بدأ يكلمنى بعنجهية وأسلوب لم أتعوده وأنا راجل كبير فى السن .. ومعروف إنى بتاع ربنا والناس كلها بتحترمنى .. وتعجبت لهذه المقابلة الغريبة .. لقد كان يحدثنى تارة من أنفه وتارة أخرى من تحت ضرسه .. وفجأة هب واقفاً وهو يصيح فى وجهى: انت يا راجل مش عارف انك فى وزارة محترمة .. ازاى تبقى موظف عندنا وعايز تشتغل فى محل مانيفاتورة .. مش عيب؟ لازم تعرف ان الحكومة لها كرامة
قلت له مستعطفاً: أنا عارف يا سعادة البيه انى فى وزارة محترمة وطول عمرى بحافظ على كرامة الحكومة .. بس دا أنا حاشتغل فى عمل شريف علشان آكل منه عيش .. وشغلانة كاتب مش عيب
وزاد هياج المدير العام وارتفع صياحه ، وأمسك بطلبى ومزقه وألقاه فى سلة المهملات وهو يقول: اتفضل شوف شغلك وبلاش مسخرة وكلام فارغ .. قال مانيفاتورة قال .. ناقص تقول لى عايز أشتغل زبال
وهنا أخرج عم عبد الواحد منديله من جيبه وأخذ يجفف حبات العرق التى تناثرت على جبهته وبدأت تتساقط على وجهه من شدة الحرارة والانفعال والتأثر .. ثم واصل حديثه قائلا: وتركت المدير العام إلى مسجد الوزارة حيث أديت صلاة الظهر ثم قرأت ما تيسر من الآيات الكريمة ، فأحسست براحة وطمأنينة ، وشعرت أنى قريب إلى الله .. وزالت عن نفسى كل الهموم التى سببها لى المدير العام
وسألت عم عبد الواحد وأنا متلهف لسماع باقى قصته: وماذا حدث بعد ذلك؟
قال: بعد أن صليت الظهر ذهبت إلى دارة شئون الأفراد وطلبت السماح لى بأجازة أسبوع
قلت: ولماذا طلبت القيام بالأجازة؟
قال: لقد اعتدت فى شهر رمضان من كل عام أن أقضى أسبوعا متنقلا بين مساجد حى الحسين .. إنها متعة بالنسبة لى ما بعدها متعة
وسكت قليلا وشعرت أنه يستعد لإعلان خبر هام ، ثم قال: بعد ذلك توجهت إلى منزلى فى حى الشرابية .. وهناك كانت تنتظرنى مفاجأة .. وجدت تلغرافاً ,, ولا أخفى عليك الخوف الذى أصابنى .. فقد ظننت أن المدير العام قرر فصلى ، وأمسكت بالتلغراف بيد مرتعشة وقرأته .. فإذا به تلغراف تعيين وليس فصلا .. لقد كان من وزارة الأوقاف تخطرنى فيه بتعيينى واعظاً غير متفرغ فى أحد مساجدها
قلت: وكيف تم ذلك؟ .. هل سبق لك أن قدمت طلباً للوزارة؟
قال: نعم ، ولكنك لن تصدق إذا قلت لك أننى قدمته منذ أكثر من سنتين
قلت: شىء غريب أن الوزارة افتكرتك بعد هذه المدة الطويلة
قال: ما غريب الا الشيطان يا بيه .. دا ربنا أراد أن يؤدب هذا المدير العام ويعطيه درساً قاسياً ، فأرسل لى هذه الوظيفة المحترمة حتى لا يستطيع رفضها
ثم توقف عم عبد الواحد فجأة عن الكلام ، وأخذ يتمتم بصوت مسموع ببعض الآيات والدعوات وهو يرفع يديه إلى السماء ثم يمسح بهما على وجهه متباركاً .. وقبل أن يستأنف حديثه سألته: ولكنك أخبرتنى أنك فى أجازة .. فما الذى جاء بك اليوم إلى الوزارة؟
قال: قطعت الأجازة
قلت: ولماذا قطعتها؟
وقبل أن يجيب على سؤالى رمقنى بنظرة فيها شىء من الاستنكار ثم أخرج من جيبه مظروفاً وقال فى صوت يبدو عليه الانفعال: شايف التلغراف ده .. أنا جاى الوزارة النهاردة مخصوص علشان أحطه فى عين المدير العام