هو ابو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي. ولقبه ولي الدين لقبه بذلك السلطان الظاهر برقوق من سلاطين المماليك في مصر عند عهده اياه بمنصب قاضي قضاة المالكية في مصر سنة 786هـ -1386م، علي ما يذكر المقريزي في ترجمته له.
ولد في تونس غرة رمضان سنة 732 هـ مايس سنة 1332 م في دار مازالت عامرة حتي يومنا، تقع في شارع (تربة الباي) من تونس المدينة القديمة، وفيها شب وتعلم، حيث كان ابوه معلمه الاول. ثم اختلف علي العديد من العلماء والمشايخ الذين استقطبتهم تونس من مختلف بلاد المغرب والاندلس بعد ان ساءت احوالهم في تلك البلاد فحفظ عليهم القرآن وجوده بالقراءات السبع- وكذلك بقراءة يعقوب إبن اسحق البصري. وتقف عنهم علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه واصول وتوحيد، ودرس علوم اللسان من لغة ونحو وصرف وبلاغة وادب وتاريخ ثم درس المنطق والفلسفة وعلوم الطبيعة والرياضة.
ولقد اظهر في كل اولئك نبوغا اعجب شيوخه ومعلميه ويذكر -ابن خلدون، اسماء من درس عليهم واخذ عنهم في كتابه (التعريف بابن خلدون) الذي يختتم به كتاب العبر في التاريخ ويترجم بعناية وتفصيل لنفسه ولاثنين من شيوخه. هما محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، امام المحدثين والنحاة في المغرب، الذي اخذ عنه الحديث والسيرة وعلوم اللغة وابو عبد الله محمد بن ابراهيم الابلي الذي اخذ عـنـه الفلسفة والمنطق والطبيعة.
ومن الكتب التي اثر ابن خلدون ان يقف عندها في تعريفه اللامية في القراءات والرائية في رسم المصحف للشاطبي وكتاب التسهيل في النحو لابن مالك والاغاني لابي الفرج الأصبهاني والمعلقات وكتاب الحماسة للاعلم الشنتمري وديوان ابي تمام وديوان المتنبي والصحاح الست خاصة صحيح مسلم وموطا مالك وكتاب التهذيب للبرادعي ومختصر ابن الحاجب في الفقه والاصول ومختصر سحنون فــي الفقه المالك لابن اسحـق.
ولما بلغ ابن خلدون الثامنة عشرة اجتاح تونس الطاعون فاهلك فيمن اهلك ابويه وجميع من كان ياخذ عنهم العلم، فاستوحش لذلك ورغب في ان يهاجر الي المغرب الاقصي مع من هاجر من العلماء والشيوخ في صحبة السلطان ابي الحسن صاحب دولة بني مرين، الا ان اخاه الاكبر صرفه عن ذلك.
فاقام في تونس ولكن ليعزف عن الدرس الذي لم يبق في تونس من الشيوخ والعلماء من يرغبه فيه بعد هجرة عامتهم مع ابي الحسن، وقرر ان يجرب حظه في الحياة العملية فتطلع الي اعمال الدولة ورغب في مناصبها، متابعا في ذلك سيرة اجداده في توليه امور الدولة والقيام علي خدمة اغراض السلطان.
وفي اثر خروج السلطان ابي الحسن الي المغرب، زحف الفضل بن السلطان ابي يحيي الحفصي علي تونس لينتزعها من يد بني مرين بعد ان كانوا قد استولوا عليها وقتلوا اباه سنة 748 هـ ولكن لم يلبث الفضل طويلا حتي عزله وزيره ابو محمد بن تافراكـين ليولي مكانه اخاه الاصغر ابا اسحق بن ابي يحيي، وليستبد هو بالملك من دونه.
وفي عهد الوزير هذا تولي ابن خلدون سنة 751 هـ كتابه العلامة للسلطان، وكانت هذه اول وظيفة يتولاها في دولة بني حفص.
ويبدو انها كانت في حاجة الي نبوغ ابن خلدون في الانشاء والصياغة لتستقيم ديباجته مع موضوع الامر او المرسوم اللذين يصدران باسم السلطان ولكن لم يكد ابن خلدن ان يستقر في هذه الوظيفة حتي زحف ابو زيد حفيد السلطان ابي يحيي الحفصي، امير قسنطينة علي تونس لينتزعها من يد الوزير الغاصب ابن تافراكين ويعيدها خالصة لبني حفص، ويهرب ابن خلدون الي الجزائر ويستقر في بسكرة ويتزوج هناك نحو عام 754 هـ ولما ولي ابو عنان بن ابي الحسن ملك المغرب الاقصي بعد وفاة ابيه، عمل علي استعادة ما استولي عليه ابوه من يد بني حفص في المغرب الادني وتونس.. وبني عبد الواد في المغرب الاوسط ولما تم ذلك واستقر في تلمسان- قاعدة المغرب الاوسط، سعي له ابن خلدون وجهد في التقرب منه فالحقه هذا ببطانته وعينه عضوا في مجلسه العلمي بفاس وكلفه شهود الصلوات معه سنة 755 هـ ثم رفعه ليكون ضمن كتابه وموقعيه.
وفي فاس عاود ابن خلدون الدرس والاتصال بالشيوخ والعلماء من المغرب وممن وفد عليها من الاندلس، وبلغ من ذلك البغية علي انه ذكر في كتاب (التعريف) وفي الوقت نفسه يتطلع الي المزيد من الحظوة لدي السلطان والرقي في مناصب الدولة.
وقد قاده ذلك التطلع والاشرأباب المحمومين الي الاشتراك في مؤامرة ضد السلطان مع الامير ابي عبد الله محمد الحفصي الذي خلعه السلطان عن بجاية واحتفظ به اسيرا في فاس ولما بلغ ابا عنان خبرهما قبض علي ابن خلدون والامير المخلوع وسجنهما ولم يسمع لهما تضرعا او شفاعة فظلا في السجن ثم اطلق سراح الامير محمد وبقي ابن خلدون في السجن حتي سنة 759 هـ حيث كتب الي ابي عنان قصيدة طويلة رق لها الامير. ووعد بالافراج عنه وكان يومها في تلمسان ولكن الموت عاجل الاسير فتوفي قبل ان يغادر الي فاس ويفي بوعده في إطلاق سراحه ومما قال في هذه القصيدة:
علي اي حال لليالي اعاتب
واي صروف للزمان اغالب
كفي حزنا اني علي القرب نازح
واني علي دعوي شهودي غائب
واني علي حكم الحوادث نازل
تسالمني طورا وطورا تحارب
سلوتهم الا ادكار معاهد
لها في الليالي الغابرات غرائب
وان نسيم الريح منهم يشوقني
اليهم وتصيبني البروق اللواعب
وهي طويلة في نحو مئتي بيت. ذكر معظمها في كتاب التعريف ثم ان الوزير الحسن بن عمر عزل السلطان الجديد ابا زيان بن ابي عنان واقام علي العرش طفلا هو اخوه سعيد بن ابي عنان ليستبد بالملك دونه، وبادر بعد ان صفي منافسيه من وزراء وامراء الي اطلاق سراح المعتقلين ومن جملتهم ابن خلدون. ورده الي سابق وظائفه واحسن اليه. ورفض طلبه باعتزال العمل والانصراف الي الدرس في تونس.
ولكن ما ان وثب منصور بن سليمان من بني مرين بالمغرب الاقصي وانتزع الامر من الوزير، حتي انقلب ابن خلدون علي الوزير واتصل بالسطان الجديد فقربه هذا واعلي مكانه، ولكنه لم يلبث ان غادره الي طالب عرش جديد هو ابو سالم بن ابي الحسن- احد اخوة ابي عنان الذي استطاع بتدبير محكم من ابن خلدون ان يقصي منصور بن سليمان ليتربع هو علي عرش ابيه وليجعل ابن خلدون في كتاب سره والانشاء في مخاطباته والترسل عنه وقربه واحسن اليه.
ولقد نهض ابن خلدون بمهمته هذه علي احس وجه. فطور اساليب الانشاء والمخاطبات محررا اياها من التصنع والاسجاع المتكلفة. وبالغا بما شأواً لم يدنه فيه احد. يذكر هو ذلك في كتاب (التعريف) فيقول (كان اكثر الرسائل يصدر عني بالكلام المرسل، ولم انتحل الكتابة في الاسجاع لضعف انتحالها وخفاء العالي منها علي اكثر الناس بخلاف المرسل فانفردت به يؤمئذ. وكان مستغربا عندهم بين اهل الصناعة (يقصد كتاب الرسائل)، ثم اخذت نفسي بالشعر فانثال علي منه بحور توسطت بين الاجادة والقصور).
وبعد عامين من العمل في كتابة السر، ولاه السلطان خطة المظالم فاجادها بكفاية وعدل وخطة المظالم هذه هي وظيفة تجمع بين سطوة السلطان وسلطته وبين رحمة القضاء ونصفه وهي في ذلك تحتاج الي علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم وتزجر المعتدي وتطمئن المظلوم والمعتدي عليه ولكن عندما ثار بالسلطان وزيره وصهره عمر بن عبد الله ليطيح به ويولي بدله اخاه تاشفين ويستبد هو بالامر دونه، بادر ابن خلدون الي الانضواء تحت لوائه مبررا ذلك بان السلطان ابا سالم قد هم به نتيجة سعاية الفقيه ابن مرزوق ولقد اقره الوزير الغاصب في عمله وزاد في اقطاعه ورزقه بيد ان ابن خلدون كان يطمح من الوزير بالكثير لما كان بينهما من صداقة وود قديمين علي ما يلمح هو الي ذلك في تعريفه، ولما لم يحقق له وزيره ذلك غضب منه واستقال من وظيفته فاعرض عنه الوزير استهانة به. فتوجس ابن خلدون من ذلك خيفة ولجأ الي الوزير مسعود بن رحو ليشفع له لدي الامير عمر بن عبد الله، فشفع له.
وقصده اي ابن خلدون يوم عيد الفطر. وأنشده قصيدة علي ان يجانب تلمسان فلا يذهب اليها من اي طريق لئلا يتصل بغريمه ابي حمو من بني عبد الواد الذي استعاد ملك آبائه في المغرب الاوسط لذلك اثر ابن خلدون الرحلة الي غرناطة في الاندلس وقصد اليها اوائل سنة 764 هـ.
واتصل بامير غرناطة محمد بن يوسف بن الاحمر ووزيره الاديب ذائع الصيت لسان الدين بن الخطيب اللذين كانت تربطهما بابن خلدون صداقة قوية منذ كانا لاجئين في بلاط السلطان ابي سالم بفاس وكان هو كاتب السر والانشاء والمراسيم للسلطان ولما صار علي بعد اربعة فراسخ من غرناطة جاءه رسول صديقه وضيفه ابن الخطيب بكتاب يفتتحه بقوله:
حللت حلول الغيث في البلد المحل
علي الطائر الميمون والرحب والسهل
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه
من الشيخ والطفل المدلل والكهل
ولقد احتفي بمقدمه كل من السلطان والوزير فضماه الي مجالسهما واثراه بصحبتهما وسمرهما ثم كلفه السلطان عام 765 هـ بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة لابرام صلح بين اماريتهما.
فسافر ابن خلدون الي اشبيلية التي اتخذها ملك قشتالة قاعدة لملكه، وكانت هي موطن لبني خلدون في بدء عهدهم في الاندلس، ووفق في مهمته وطلب اليه الملك البقاء عنده واغراه علي ذلك بان يرد له اموال آبائه في اشبيلية التي استولت عليها دولته، الا انه -اي ابن خلدون- اعتذر عن ذلك وعاد بهدايا ملك قشتالة واتفاقية الصلح معه.
فكافأة السلطان علي حسن سفارته فاقطعه اقطاعا كبيرا من الارض في غرناطة وكان لهذا النجاح وذلك الاقبال من قبل الامير والوزير علي ابن خلدون ان اثار عليه حسد الحاسدين فسعوا به الي السلطان. وقد احس ابن خلدون بذلك فقرر ان يتفادي ما قد تأتي به هذه السعايات وصادف ان استطاع صديقه ابو عبد الله محمد الحفصي الذي خلعه ابو عنان عن ملكه واخذه اسيرا معه في فاس، ان استعاد ملكه ليعود الي بجاية ويستوزر اخا ابن خلدون يحيي، ويكتب اليه يعده ويمنيه بما قطعه له من وعود في منصب الجباية التي كان ابن خلدون يتطلع اليها، لذلك قرر ان يرحل الي بجاية واطلع السلطان علي ما جاء من الامير محمد الحفصي فاذن له هذا بالرحيل واكرمه مظهرا هو ووزيره لسان الدين الاسف والحزن علي فراقه وفي منتصف عام 766 هـ ركب البحر في المرية الي بجاية فاستقبله الامير ابو عبد الله واعيان اهل بجاية استقبالا حافلا.
يذكره ابن خلدون في كتاب (التعريف) فيقول (فاحتفل السلطان بقدومي واركب اهل دولته للقائي وتهافت الناس علي من كل اوب يمسحون اعطافي ويقبلون يدي وكان يوما مشهودا) وبالفعل تولي الحجابة للامير حال قدومه عليه والحجابة لا يرتفع منصب عليها غير الامارة اذ هي كما يصف ابن خلدون (تمكن صاحبها الاستقلال في الدولة والوساطة بين السلطان واهل دولته لا يشاركه في ذلك احد).
ولم يلبث ابن خلدون في بجاية طويلا حتي شب النزاع بين الامير ابي عبد الله وابن عمه السلطان ابي العباس احمد، صاحب قسنطينة الذي كان يطمع في ضم بجاية الي ملكه وفي عام 767 هـ دارت معركة حامية بين الامير وابن عمه السلطان هزم فيها جيش الامير وقتل الامير فدخل السلطان بجاية ظافرا وكان ابن خلدون حينئذ يلزم القصر في بجاية مختبئا فلما بلغه مقتل اميره وهزيمة جيشه وجد ان يهتبل فرصته فيستقبل السلطان الظافر ولم ير رأي من اشار عليه بالدعوة لصبي من ابناء الامير ومواجهة السلطان.
فاكرم السلطان ذلك منه واقره في منصب الحجابة ولكنه سرعان ما تغير عليه وارتاب فيه فتوجس ابن خلدون من ذلك واستاذنه في الانصراف الي احد الاحياء القريبة له، ثم خشي ان يفلت منه الي اعدائه من بني عبد الواد فيدلهم علي مكامن ضعف ملكه. فقرر ان يقبض عليه ففر ابن خلدون الي بسكرة. يرقب الاحداث وكان سلطان تلمسان في المغرب الاوسط يفكر في ضم بجاية الي امارته خاصة ان اميرها الذي قتله ابو العباس هو صهره فوجد ان يستعين بابن خلدون في دعوته واستمالة القبائل اليه. فكتب بذلك الي ابن خلدون فاجابه الي ذلك. ونشط في الدعوة له واعتذر عن قبول اي منصب او مركز في الدولة مؤثرا الدرس والعلم علي الحيــاة السياسيــة واضطــراب احوالهـــا.
وفي هذه الاثناء ظهر الامير عبد العزيز إبن ابي العباس من بني مرين، سلطان المغرب الاقصي علي ساحة الاحداث وكان لتوه قد حرر نفسه من سيطرة وزيره عمر إبن عبد الله، وطفق يعد العدة لاسترداد تلمسان من بني عبد الواد.
فلما بلغ ذلك ابن خلدون، قدر ان الامر لن يتم لصديقه ابي حمو وان عبد العزيز هو الغالب لذلك استاذن الامير ابا حمو بالرحيل الي الاندلس فاذن له لكن عساكر السطان عبد العزيز عاجلته بعد ان شتت جند ابي حمو واستولت علي تلسمان لتعتقله في مرسي (هنين ) ولما جيء به الي السلطان عبد العزيز عنفه علي غدره ببني مرين ولجوئه الي اعدائهم من بني عبد الواد فاعتذر له بان ذلك لم يكن باختياره وانما وزيره عمر بن عبد الله اضطره الي ذلك.
وشفع له من كان مع السلطان من رجالات دولته مؤكدين عذره فشفع له وندبه الي بث دعوته في القبائل واستمالتها اليه ضد عدوه ابي حمو. فاجابه الي ذلك وقام بالمهمة علي احسن وجه مما جعل الامير يقربه ويغدق عليه عطاياه ولم يستتم به الامر طويلا، اذ توفي الامير عبد العزيز واستعاد الامير ابو حمو تلمسان فخرج من بسكرة يريد فاس فلما علم بذلك الامير ابو حمو اغري به بني يغمور فنهبوه في الطريق ووصل فاس هو واهله في حالة يرثي لها.
ولد في تونس غرة رمضان سنة 732 هـ مايس سنة 1332 م في دار مازالت عامرة حتي يومنا، تقع في شارع (تربة الباي) من تونس المدينة القديمة، وفيها شب وتعلم، حيث كان ابوه معلمه الاول. ثم اختلف علي العديد من العلماء والمشايخ الذين استقطبتهم تونس من مختلف بلاد المغرب والاندلس بعد ان ساءت احوالهم في تلك البلاد فحفظ عليهم القرآن وجوده بالقراءات السبع- وكذلك بقراءة يعقوب إبن اسحق البصري. وتقف عنهم علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه واصول وتوحيد، ودرس علوم اللسان من لغة ونحو وصرف وبلاغة وادب وتاريخ ثم درس المنطق والفلسفة وعلوم الطبيعة والرياضة.
ولقد اظهر في كل اولئك نبوغا اعجب شيوخه ومعلميه ويذكر -ابن خلدون، اسماء من درس عليهم واخذ عنهم في كتابه (التعريف بابن خلدون) الذي يختتم به كتاب العبر في التاريخ ويترجم بعناية وتفصيل لنفسه ولاثنين من شيوخه. هما محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، امام المحدثين والنحاة في المغرب، الذي اخذ عنه الحديث والسيرة وعلوم اللغة وابو عبد الله محمد بن ابراهيم الابلي الذي اخذ عـنـه الفلسفة والمنطق والطبيعة.
ومن الكتب التي اثر ابن خلدون ان يقف عندها في تعريفه اللامية في القراءات والرائية في رسم المصحف للشاطبي وكتاب التسهيل في النحو لابن مالك والاغاني لابي الفرج الأصبهاني والمعلقات وكتاب الحماسة للاعلم الشنتمري وديوان ابي تمام وديوان المتنبي والصحاح الست خاصة صحيح مسلم وموطا مالك وكتاب التهذيب للبرادعي ومختصر ابن الحاجب في الفقه والاصول ومختصر سحنون فــي الفقه المالك لابن اسحـق.
ولما بلغ ابن خلدون الثامنة عشرة اجتاح تونس الطاعون فاهلك فيمن اهلك ابويه وجميع من كان ياخذ عنهم العلم، فاستوحش لذلك ورغب في ان يهاجر الي المغرب الاقصي مع من هاجر من العلماء والشيوخ في صحبة السلطان ابي الحسن صاحب دولة بني مرين، الا ان اخاه الاكبر صرفه عن ذلك.
فاقام في تونس ولكن ليعزف عن الدرس الذي لم يبق في تونس من الشيوخ والعلماء من يرغبه فيه بعد هجرة عامتهم مع ابي الحسن، وقرر ان يجرب حظه في الحياة العملية فتطلع الي اعمال الدولة ورغب في مناصبها، متابعا في ذلك سيرة اجداده في توليه امور الدولة والقيام علي خدمة اغراض السلطان.
وفي اثر خروج السلطان ابي الحسن الي المغرب، زحف الفضل بن السلطان ابي يحيي الحفصي علي تونس لينتزعها من يد بني مرين بعد ان كانوا قد استولوا عليها وقتلوا اباه سنة 748 هـ ولكن لم يلبث الفضل طويلا حتي عزله وزيره ابو محمد بن تافراكـين ليولي مكانه اخاه الاصغر ابا اسحق بن ابي يحيي، وليستبد هو بالملك من دونه.
وفي عهد الوزير هذا تولي ابن خلدون سنة 751 هـ كتابه العلامة للسلطان، وكانت هذه اول وظيفة يتولاها في دولة بني حفص.
ويبدو انها كانت في حاجة الي نبوغ ابن خلدون في الانشاء والصياغة لتستقيم ديباجته مع موضوع الامر او المرسوم اللذين يصدران باسم السلطان ولكن لم يكد ابن خلدن ان يستقر في هذه الوظيفة حتي زحف ابو زيد حفيد السلطان ابي يحيي الحفصي، امير قسنطينة علي تونس لينتزعها من يد الوزير الغاصب ابن تافراكين ويعيدها خالصة لبني حفص، ويهرب ابن خلدون الي الجزائر ويستقر في بسكرة ويتزوج هناك نحو عام 754 هـ ولما ولي ابو عنان بن ابي الحسن ملك المغرب الاقصي بعد وفاة ابيه، عمل علي استعادة ما استولي عليه ابوه من يد بني حفص في المغرب الادني وتونس.. وبني عبد الواد في المغرب الاوسط ولما تم ذلك واستقر في تلمسان- قاعدة المغرب الاوسط، سعي له ابن خلدون وجهد في التقرب منه فالحقه هذا ببطانته وعينه عضوا في مجلسه العلمي بفاس وكلفه شهود الصلوات معه سنة 755 هـ ثم رفعه ليكون ضمن كتابه وموقعيه.
وفي فاس عاود ابن خلدون الدرس والاتصال بالشيوخ والعلماء من المغرب وممن وفد عليها من الاندلس، وبلغ من ذلك البغية علي انه ذكر في كتاب (التعريف) وفي الوقت نفسه يتطلع الي المزيد من الحظوة لدي السلطان والرقي في مناصب الدولة.
وقد قاده ذلك التطلع والاشرأباب المحمومين الي الاشتراك في مؤامرة ضد السلطان مع الامير ابي عبد الله محمد الحفصي الذي خلعه السلطان عن بجاية واحتفظ به اسيرا في فاس ولما بلغ ابا عنان خبرهما قبض علي ابن خلدون والامير المخلوع وسجنهما ولم يسمع لهما تضرعا او شفاعة فظلا في السجن ثم اطلق سراح الامير محمد وبقي ابن خلدون في السجن حتي سنة 759 هـ حيث كتب الي ابي عنان قصيدة طويلة رق لها الامير. ووعد بالافراج عنه وكان يومها في تلمسان ولكن الموت عاجل الاسير فتوفي قبل ان يغادر الي فاس ويفي بوعده في إطلاق سراحه ومما قال في هذه القصيدة:
علي اي حال لليالي اعاتب
واي صروف للزمان اغالب
كفي حزنا اني علي القرب نازح
واني علي دعوي شهودي غائب
واني علي حكم الحوادث نازل
تسالمني طورا وطورا تحارب
سلوتهم الا ادكار معاهد
لها في الليالي الغابرات غرائب
وان نسيم الريح منهم يشوقني
اليهم وتصيبني البروق اللواعب
وهي طويلة في نحو مئتي بيت. ذكر معظمها في كتاب التعريف ثم ان الوزير الحسن بن عمر عزل السلطان الجديد ابا زيان بن ابي عنان واقام علي العرش طفلا هو اخوه سعيد بن ابي عنان ليستبد بالملك دونه، وبادر بعد ان صفي منافسيه من وزراء وامراء الي اطلاق سراح المعتقلين ومن جملتهم ابن خلدون. ورده الي سابق وظائفه واحسن اليه. ورفض طلبه باعتزال العمل والانصراف الي الدرس في تونس.
ولكن ما ان وثب منصور بن سليمان من بني مرين بالمغرب الاقصي وانتزع الامر من الوزير، حتي انقلب ابن خلدون علي الوزير واتصل بالسطان الجديد فقربه هذا واعلي مكانه، ولكنه لم يلبث ان غادره الي طالب عرش جديد هو ابو سالم بن ابي الحسن- احد اخوة ابي عنان الذي استطاع بتدبير محكم من ابن خلدون ان يقصي منصور بن سليمان ليتربع هو علي عرش ابيه وليجعل ابن خلدون في كتاب سره والانشاء في مخاطباته والترسل عنه وقربه واحسن اليه.
ولقد نهض ابن خلدون بمهمته هذه علي احس وجه. فطور اساليب الانشاء والمخاطبات محررا اياها من التصنع والاسجاع المتكلفة. وبالغا بما شأواً لم يدنه فيه احد. يذكر هو ذلك في كتاب (التعريف) فيقول (كان اكثر الرسائل يصدر عني بالكلام المرسل، ولم انتحل الكتابة في الاسجاع لضعف انتحالها وخفاء العالي منها علي اكثر الناس بخلاف المرسل فانفردت به يؤمئذ. وكان مستغربا عندهم بين اهل الصناعة (يقصد كتاب الرسائل)، ثم اخذت نفسي بالشعر فانثال علي منه بحور توسطت بين الاجادة والقصور).
وبعد عامين من العمل في كتابة السر، ولاه السلطان خطة المظالم فاجادها بكفاية وعدل وخطة المظالم هذه هي وظيفة تجمع بين سطوة السلطان وسلطته وبين رحمة القضاء ونصفه وهي في ذلك تحتاج الي علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم وتزجر المعتدي وتطمئن المظلوم والمعتدي عليه ولكن عندما ثار بالسلطان وزيره وصهره عمر بن عبد الله ليطيح به ويولي بدله اخاه تاشفين ويستبد هو بالامر دونه، بادر ابن خلدون الي الانضواء تحت لوائه مبررا ذلك بان السلطان ابا سالم قد هم به نتيجة سعاية الفقيه ابن مرزوق ولقد اقره الوزير الغاصب في عمله وزاد في اقطاعه ورزقه بيد ان ابن خلدون كان يطمح من الوزير بالكثير لما كان بينهما من صداقة وود قديمين علي ما يلمح هو الي ذلك في تعريفه، ولما لم يحقق له وزيره ذلك غضب منه واستقال من وظيفته فاعرض عنه الوزير استهانة به. فتوجس ابن خلدون من ذلك خيفة ولجأ الي الوزير مسعود بن رحو ليشفع له لدي الامير عمر بن عبد الله، فشفع له.
وقصده اي ابن خلدون يوم عيد الفطر. وأنشده قصيدة علي ان يجانب تلمسان فلا يذهب اليها من اي طريق لئلا يتصل بغريمه ابي حمو من بني عبد الواد الذي استعاد ملك آبائه في المغرب الاوسط لذلك اثر ابن خلدون الرحلة الي غرناطة في الاندلس وقصد اليها اوائل سنة 764 هـ.
واتصل بامير غرناطة محمد بن يوسف بن الاحمر ووزيره الاديب ذائع الصيت لسان الدين بن الخطيب اللذين كانت تربطهما بابن خلدون صداقة قوية منذ كانا لاجئين في بلاط السلطان ابي سالم بفاس وكان هو كاتب السر والانشاء والمراسيم للسلطان ولما صار علي بعد اربعة فراسخ من غرناطة جاءه رسول صديقه وضيفه ابن الخطيب بكتاب يفتتحه بقوله:
حللت حلول الغيث في البلد المحل
علي الطائر الميمون والرحب والسهل
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه
من الشيخ والطفل المدلل والكهل
ولقد احتفي بمقدمه كل من السلطان والوزير فضماه الي مجالسهما واثراه بصحبتهما وسمرهما ثم كلفه السلطان عام 765 هـ بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة لابرام صلح بين اماريتهما.
فسافر ابن خلدون الي اشبيلية التي اتخذها ملك قشتالة قاعدة لملكه، وكانت هي موطن لبني خلدون في بدء عهدهم في الاندلس، ووفق في مهمته وطلب اليه الملك البقاء عنده واغراه علي ذلك بان يرد له اموال آبائه في اشبيلية التي استولت عليها دولته، الا انه -اي ابن خلدون- اعتذر عن ذلك وعاد بهدايا ملك قشتالة واتفاقية الصلح معه.
فكافأة السلطان علي حسن سفارته فاقطعه اقطاعا كبيرا من الارض في غرناطة وكان لهذا النجاح وذلك الاقبال من قبل الامير والوزير علي ابن خلدون ان اثار عليه حسد الحاسدين فسعوا به الي السلطان. وقد احس ابن خلدون بذلك فقرر ان يتفادي ما قد تأتي به هذه السعايات وصادف ان استطاع صديقه ابو عبد الله محمد الحفصي الذي خلعه ابو عنان عن ملكه واخذه اسيرا معه في فاس، ان استعاد ملكه ليعود الي بجاية ويستوزر اخا ابن خلدون يحيي، ويكتب اليه يعده ويمنيه بما قطعه له من وعود في منصب الجباية التي كان ابن خلدون يتطلع اليها، لذلك قرر ان يرحل الي بجاية واطلع السلطان علي ما جاء من الامير محمد الحفصي فاذن له هذا بالرحيل واكرمه مظهرا هو ووزيره لسان الدين الاسف والحزن علي فراقه وفي منتصف عام 766 هـ ركب البحر في المرية الي بجاية فاستقبله الامير ابو عبد الله واعيان اهل بجاية استقبالا حافلا.
يذكره ابن خلدون في كتاب (التعريف) فيقول (فاحتفل السلطان بقدومي واركب اهل دولته للقائي وتهافت الناس علي من كل اوب يمسحون اعطافي ويقبلون يدي وكان يوما مشهودا) وبالفعل تولي الحجابة للامير حال قدومه عليه والحجابة لا يرتفع منصب عليها غير الامارة اذ هي كما يصف ابن خلدون (تمكن صاحبها الاستقلال في الدولة والوساطة بين السلطان واهل دولته لا يشاركه في ذلك احد).
ولم يلبث ابن خلدون في بجاية طويلا حتي شب النزاع بين الامير ابي عبد الله وابن عمه السلطان ابي العباس احمد، صاحب قسنطينة الذي كان يطمع في ضم بجاية الي ملكه وفي عام 767 هـ دارت معركة حامية بين الامير وابن عمه السلطان هزم فيها جيش الامير وقتل الامير فدخل السلطان بجاية ظافرا وكان ابن خلدون حينئذ يلزم القصر في بجاية مختبئا فلما بلغه مقتل اميره وهزيمة جيشه وجد ان يهتبل فرصته فيستقبل السلطان الظافر ولم ير رأي من اشار عليه بالدعوة لصبي من ابناء الامير ومواجهة السلطان.
فاكرم السلطان ذلك منه واقره في منصب الحجابة ولكنه سرعان ما تغير عليه وارتاب فيه فتوجس ابن خلدون من ذلك واستاذنه في الانصراف الي احد الاحياء القريبة له، ثم خشي ان يفلت منه الي اعدائه من بني عبد الواد فيدلهم علي مكامن ضعف ملكه. فقرر ان يقبض عليه ففر ابن خلدون الي بسكرة. يرقب الاحداث وكان سلطان تلمسان في المغرب الاوسط يفكر في ضم بجاية الي امارته خاصة ان اميرها الذي قتله ابو العباس هو صهره فوجد ان يستعين بابن خلدون في دعوته واستمالة القبائل اليه. فكتب بذلك الي ابن خلدون فاجابه الي ذلك. ونشط في الدعوة له واعتذر عن قبول اي منصب او مركز في الدولة مؤثرا الدرس والعلم علي الحيــاة السياسيــة واضطــراب احوالهـــا.
وفي هذه الاثناء ظهر الامير عبد العزيز إبن ابي العباس من بني مرين، سلطان المغرب الاقصي علي ساحة الاحداث وكان لتوه قد حرر نفسه من سيطرة وزيره عمر إبن عبد الله، وطفق يعد العدة لاسترداد تلمسان من بني عبد الواد.
فلما بلغ ذلك ابن خلدون، قدر ان الامر لن يتم لصديقه ابي حمو وان عبد العزيز هو الغالب لذلك استاذن الامير ابا حمو بالرحيل الي الاندلس فاذن له لكن عساكر السطان عبد العزيز عاجلته بعد ان شتت جند ابي حمو واستولت علي تلسمان لتعتقله في مرسي (هنين ) ولما جيء به الي السلطان عبد العزيز عنفه علي غدره ببني مرين ولجوئه الي اعدائهم من بني عبد الواد فاعتذر له بان ذلك لم يكن باختياره وانما وزيره عمر بن عبد الله اضطره الي ذلك.
وشفع له من كان مع السلطان من رجالات دولته مؤكدين عذره فشفع له وندبه الي بث دعوته في القبائل واستمالتها اليه ضد عدوه ابي حمو. فاجابه الي ذلك وقام بالمهمة علي احسن وجه مما جعل الامير يقربه ويغدق عليه عطاياه ولم يستتم به الامر طويلا، اذ توفي الامير عبد العزيز واستعاد الامير ابو حمو تلمسان فخرج من بسكرة يريد فاس فلما علم بذلك الامير ابو حمو اغري به بني يغمور فنهبوه في الطريق ووصل فاس هو واهله في حالة يرثي لها.